منوعات

ما سرّ شهرة جلال الدين الرومي في الغرب؟

تعتبر شخصية جلال الدين الرومي من الشخصيات القليلة عبر التاريخ التي تمكنت من اجتياز حواجز اللغة والدين والثقافة، حتى غدت أعماله متداولة ومنتشرة على مستوى العالم أجمع. ويبقى أساس هذا الانتشار والتجاوز كامناً في عمق فلسفته وحكمته، التي امتلكت القدرة على اجتذاب المريدين من مختلف الانتماءات والمشارب.

شاعر وفيلسوف ومتصوف

ولد جلال الدين الرومي عام 1207 في مدينة بلخ (في أفغانستان اليوم)، وكان والده شيخاً صوفياً، فتلقى علوم الدين والتصوف منذ صغره، قبل أن يتنقل في حواضر المشرق طلباً للعلم على يد كبار علماء العصر، فالتقى فريد الدين العطار في نيسابور، ومحيي الدين بن عربي في دمشق، وأخذ العلم عن مشايخ حلب، قبل أن يستقر في مدينة قونيا (جنوب تركيا اليوم) عاصمة السلاجقة آنذاك.

اقرأ أيضاً: قونيا: أي هوية كانت ستختار لولا الرومي؟

وجاءت نقطة التحول الأبرز في حياة الرومي عندما التقى بشمس الدين التبريزي، أحد أشهر أعلام الصوفية في ذلك العصر، فلزمه وأخذ ينهل من حكمته ومعارفه. وعندما اختفى شمس الدين التبريزي من قونيا، انطلق في رحلة بحث عنه، وانتهت رحلة البحث بكتابة كتابه الأشهر “المثنوي” والذي وضع فيه خلاصة ما انتهى إليه من حكمة في أكثر من 25 ألف بيت شعر.

تهذيب النفس وتجاوز العالم المادي

ركزت فلسفة الرومي على تهذيب النفس وتجاوز العالم المادي والارتقاء عن الشهوات، وكان يقول: “لست حزيناً ولا مسروراً، إنني مع الله”، ويعني الوصول إلى حال “المعيّة” فمع الله عنده: التخلص من الحقد والكراهية والغضب والحسد. وقد بثّ فلسفته عبر الآلاف من أبيات الشعر.

الموسيقى والرقص.. رحلة روحية

رأى الرومي في الموسيقى سبيلاً للوصول إلى الله، فالإنصات إلى الموسيقى يأخذ الإنسان في رحلة روحية تصاعدية إلى الكمال، يعود بعدها إلى واقعٍ ممتلئٍ بالمحبة والمعنى، وارتبط هذا الإصغاء برقصة الدوران حول النفس، والتي تطوّرت إلى ممارسة الرقص الدائري التي تميزت بها الطريقة المولوية المنتسبة لجلال الدين الرومي.

الرقص والموسيقى عند الرومي طريق روحية تأخذ الإنسان إلى الكمال
الرقص والموسيقى عند الرومي طريق روحية تأخذ الإنسان إلى الكمال

ترجمة أعماله وبداية الشهرة في الغرب

يعود الاهتمام الغربي بالرومي إلى فترةٍ مبكرة، ونجد من أوائل المهتمين بأعماله المستشرق الإنجليزي “رينولد نيكلسون” الذي ترجم مختارات من ديوانه “شمس تبريز” عام 1898، وقد تزايدت الدراسات والكتابات والأعمال المترجمة عن الرومي خلال القرن العشرين، وكان أهم من اشتغل على ترجمة وتفسير أشعاره المستشرق الإنجليزي “آرثر جون آربري”، والمستشرقة الألمانية “آنا ماري شيميل” التي خصصت كتابها الضخم (815 صفحة) “الشمس المنتصرة” لدراسة وتحليل أشعاره. وفي عام 1973، في ذكرى وفاته السبعمئة، عقدت لقاءات ومحاضرات دولية عديدة ونشرت دراسات علمية، حول الرومي وفلسفته وشعره.

المستشرق الإنجليزي آرثر جون آربري من أهم مَن ترجم وفسر أشعار الرومي
المستشرق الإنجليزي آرثر جون آربري من أهم مَن ترجم وفسر أشعار الرومي

ولكن هذا الاهتمام بقي محصوراً في الإطار الأكاديمي وأوساط المختصّين. وفي عام 1976 جاءت نقطة التحول، عندما أعطى الشاعر الأمريكي “روبرت بلاي” المترجم “كولمان باركس “كتاب شعر للرومي، وقال له: “ينبغي إخراج هذه القصائد من أقفاصها”. بدأت عندها محاولة إعادة ترجمة القصائد وتحريرها من صيغتها الأكاديمية الجامدة بحيث تصبح أقرب إلى طراز الشعر الأميركي الحرّ. وكانت ترجمة باركس الجديدة العامل الأهم في بلوغ أشعار الرومي مستويات الشعبية والانتشار التي وصلت إليها لاحقاً.

ساهمت ترجمة باركس لأشعار الرومي في شهرتها وانتشارها
ساهمت ترجمة باركس لأشعار الرومي في شهرتها وانتشارها

في عام 1995، نشر الشاعر الأمريكي (من أصل إيراني) “شهرام شيفا” كتاب “إزاحة الحجاب: تراجم الرومي”، قام فيه بترجمة عدد من القصائد مباشرة من الفارسية وأخرجها في قالب شعري مبسّط، وفي عام 1998، اختار الطبيب والكاتب الروحاني الأمريكي “ديباك شوبرا” قصائد كتبها الرومي ونشرها بعنوان “قصائد العشق”.

اقرأ أيضاً: هل يصلح التصوف ما أفسده الفقهاء؟

وغنّت بعضها فنانات أمريكيات مثل: “مادونا” و”غولدي هاون” و”ديمي مور”، اشتهرت منها أغنية مادونا “قوة الوداع” (The Power Of Good-Bye). وساهمت هذه الأعمال بتعزيز انتشار أعمال الرومي ووصولها إلى فئات وأوساط جديدة.

وبلغ الاهتمام بالرومي ذروته عام 2007، بمناسبة مرور 800 عام على ميلاده، حين نظمت “اليونسكو” احتفالاً خاصاً به، جاء في إعلانه “أفكار وآمال الرومي يمكن أن تكون جزءاً من أفكار وآمال اليونسكو”.

كانت نقطة التحول الأبرز في حياة الرومي عندما التقى بشمس الدين التبريزي

وفي ذات العام وصفت “بي بي سي” جلال الدين الرومي بأنه أكثر الشعراء شعبيّة في الولايات المتحدة، مع الإعلان عن حصول مؤلفات الرومي على لقب “الأعلى توزيعاً” بين كتب الشعر، في الولايات المتحدة لثلاثة أعوام متتالية من 2004 إلى 2006، لاسيّما ديوانيْه “المثنوي” و”التبريزي”.

وتعززت شهرة الرومي بعد كتابة الكاتبة التركية “إليف شافاق” روايتها “قواعد العشق الأربعون”، التي صدرت في الولايات المتحدة عام 2010، وتناولت حياة الرومي ولقائه مع التبريزي، وقدمت شرحاً مبسطاً لحكمته. ومن جديد، في عامي 2014 و2016، أعلنت صحف أمريكية عن نيل الرومي صفة الشاعر الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة.

اقرأ أيضاً: نصر أبو زيد مشتبكاً مع ابن عربي: تصالح العقل والتصوف

وفي عام 2015، عندما قرر “كريس مارتن” مغني فرقة “كولدبلاي” الانفصال عن زوجته الممثلة الأمريكية “جوينيث بالترو”، وبعدما انتابته حالة من اليأس، أهداه صديق له كتاباً لرفع معنوياته، وكان ذلك الكتاب مجموعة من قصائد الرومي. قال مارتن بعدها عن أشعار الرومي: “إنها غيّرت حياته”، بل تضمن ألبوم الفرقة التالي مقطعًا من قصيدة “بيت الضيافة” للرومي.

انتشرت قصائد الرومي على مستويات واسعة، وأصبحت مفضّلة في الأعراس، وحفلات العشاء، ودفن الموتى. وأصبحت عباراته تطبع على الملابس، وتزيّن أشجار عيد الميلاد، كما قررت شركات الآلات الموسيقية (وبخاصة النفخيّة) حفر أبيات من شعره على منتجاتها. وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، أصبح هناك عشرات الصفحات المتخصصة بنشر أشعار الرومي مع إعادة إنتاجها من خلال إرفاق الموسيقى والمقاطع المرئية.

انتشرت قصائد الرومي حتى أصبحت عباراته تطبع على الملابس

قيم ليبرالية.. الكونية والتسامح

لتفسير ظاهرة شهرة جلال الدين الرومي في الغرب وانتشار أشعاره لا بُدّ من العودة إلى فلسفته، والتي تتضمن مبدأً أساسياً يتمثل في التسامح وتجاوز التقسيمات الدينية والمذهبية، وذلك على اعتبار أنّ الله هو الحقيقة الوحيدة، وأنه هو الهدف والغاية الوحيدة للصوفيّ، وبالتالي فإن الوصول إلى الله هو المهم وليس الطريق المؤدي إليه، فكل الطُرُق سواء، وكل أماكن العبادة سَواء، وكل أسماء الديانات سَواء، والمهم هو الوصول. وهو يقول في ذلك: “مسلم أنا ولكني نصرانيّ وبرهميّ وزرادشتيّ، توكلت عليك أيها الحق الأعلى، ليس لي سوى معبد واحد، مسجد أو كنيسة أو بيت أصنام”.

حررت ترجمة “باركس” أشعار الرومي من الجمود الأكاديمي وأصبحت أقرب إلى طراز الشعر الأمريكي الحرّ

وهكذا، فإن أشعار الرومي تحمل طابع الكونية والتسامح وتجاوز الهويات، وهو ما يتسق مع قيم التنوع والتعددية التي يتم تبنيها غربياً، وفي الولايات المتحدة خاصة، وبذلك فإن الرومي كان بمثابة الوجه الإسلامي غير المتصادم مع حضارة الغرب وثقافته.

كما أن قيم الكونية والتسامح تتفق مع مناخ العولمة وما يقتضيه من تجاوز الهويات، والبحث عن المشترك، وتخطي الاختلافات بين الشعوب، والتقريب بين الحضارات والأديان، خصوصاً في ظل صعود موجات مضادة تُذكي الصراع والصدام.

التوافق مع موجة العودة إلى الروحانيات

كما جاء انتشار أعمال الرومي -منذ الربع الأخير في القرن الماضي- مترافقاً مع تصاعد حالة الاهتمام بالروحانيات والعودة إلى الأديان في الغرب، وذلك كردّ فعل على النزعة المادية التي سادت في العقود السابقة، وما نتج عنها من شعور بحالة من الخواء وفقدان المعنى والقيمة، إضافة إلى رواج قيم التنافس والتحدي التي كرستها المنظومة الرأسمالية، فجاءت أشعار الرومي الروحانية، والتي تؤكد على الارتقاء عن عالم المادة، وعلى تجاوز التنافس والبغضاء، دواءً لكل ذلك.

زاد انتشار أعمال الرومي مع تصاعد حالة الاهتمام بالروحانيات والعودة للأديان في الغرب
زاد انتشار أعمال الرومي مع تصاعد حالة الاهتمام بالروحانيات والعودة للأديان في الغرب

الحرب على الإرهاب

تزايد الاهتمام بالرومي منذ أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) عام 2001، فمن جهة ازداد الفضول في الغرب للبحث أكثر في الديانة والثقافة والفكر الإسلامي، ومن ناحيةٍ ثانية كان الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن قد أعلن “الحرب على الإرهاب”، وفي هذا السياق ظهر الرومي باعتباره نموذجاً للمسلم “اللاعنفي” الجيّد، الذي يدعو الغربُ المسلمينَ أن يكونوا على نهجه.

اقرأ أيضاً: نصر أبو زيد مشتبكاً مع ابن عربي: تصالح العقل والتصوف

وقد عُرف عن الرومي في حياته أنه رفض الانخراط في الجهاد ضد غزو المغول، واعتبره جهاداً خارجياً، وبالمقابل دعا أتباعه ومريديه إلى جهاد داخلي أو ما يعرف بـ “جهاد الروح”. وهكذا فإن الرومي قد اكتسب أهميةً وحضوراً متزايداً في سياق “الحرب على الإرهاب”.

أمينة أردوغان تهدي لورا بوش (زوجة الرئيس الأسبق جورج بوش) كتاباً عن الرومي
أمينة أردوغان تهدي لورا بوش (زوجة الرئيس الأسبق جورج بوش) كتاباً عن الرومي

وهكذا فقد غدت شخصية الرومي مهمة في فهم الاتجاهات السائدة في عالم اليوم، وتجاوزت بذلك ميدان التصوف واللاهوت، لتصبح معبرة عن السياسة والمجتمعات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock