اقلام وافكار حرة

نوعم تشومسكي شارحًا عقيدة الإبادة الصهيونيّة: “الإصابة بالجنون”!

في عام 2018، أنجز المفكّر والأكاديميّ اليهوديّ، المناهض للصهيونيّة وللمدعوّة “إسرائيل”، نورمان فينكلستين، واحدًا من مؤلّفاته الغزيرة والمثيرة دومًا للجدال وللحنق الصهيونيّ، تحت عنوان “غزّة: تحقيق في استشهادها” (Gaza: An Inquest its Martyrdrom)، مضمّنًا إيّاه، فضلًا عن مداخلاته وآرائه، حوارًا مع زميله اليهوديّ اللامع ذي الشهرة العالمية نوعم تشومسكي، أب الألسنيّة الحديثة والناقد الاجتماعيّ اليساريّ النزعة والمناضل الفكريّ ضدّ الإمبريالية الأميركية والصهيونية العالمية والإسرائيلية معًا. وإلى الحوار معه في هذا الكتاب البحثيّ الكاشف، ثمة نصّ إضافيّ مستقلّ له هو مرتكزي هنا لفهم الحقائق المتصلة بما يحصل اليوم في محرقة غزة المأساوية الرهيبة، إذ يتبدّى على نحو مدهش أنّ ما كتبه تشومسكي قبل خمس عشرة سنة لا يزال صالحًا لإسقاطه على اللحظة الراهنة، بل يمكن أن نراه مطابقًا، مع الفرق في حجم المأساة وعدد الشهداء. والأكثر إثارة في كلام تشومسكي هو كشفه نوازع الإبادة في العقل والممارسة الصهيونيين، أسبابًا وعقيدةً وأهدافًا.
يكشف تشومسكي أنّ ثمة تكتيكًا يعتمده الإسرائيليون منذ الخمسينيّات هو “الإصابة بالجنون”، إذ تحسب “إسرائيل” أنّ من المفيد لها على الدوام أن تظهر بمظهر مَنْ “جُنّ جنونه”، وهذه “الإصابة بالجنون” باتت أسلوبًا متّبعًا (نشهد أقصى تجلّياته اليوم) لإنزال أشدّ الألم بالمدنيين، على أساس أنّ لحماس مظهرين: الجناح العسكري المقاوم والجناح الاجتماعيّ (التعبير الأخير هو تلطيف إسرائيليّ لتعبير “المجتمع المدنيّ”). بالنسبة إلى “إسرائيل”: “قُدّت حماس من أديم واحد، وبالتالي تغدو أدوات سيطرتها السياسية والاجتماعية أهدافًا مشروعة مثلما هي مخابئ صواريخها”. يؤكد تشومسكي في مداخلته هذه على أنّ الإسرائيليين “يتبنّون ضمنًا المنظور التقليدي للذين يحتكرون عمليًّا وسائل العنف: يمكن لقبضتنا المدرّعة أن تسحق أيّ معارضة، وإذا سقط بنتيجة هجومنا المسعور كثير من الضحايا المدنيين يكون ذلك للأفضل. قد يتمّ بذلك تلقين من بقي درسًا مناسبًا”، مشيرًا إلى أنّ ضبّاط الجيش الإسرائيلي “يدركون بوضوح أنهم يسحقون المجتمع المدني”، ومستشهدًا في المقابل بالأكاديمي اللبناني والأستاذ المحاضر في جامعة أكسفورد فوّاز جرجس، المتخصّص في شؤون الشرق الأوسط، الذي يعتقد “أنّ إرهاب الدولة الأميركيّ ـ الإسرائيليّ سيفشل، إذ لا يمكن القضاء على حماس من دون ذبح نصف مليون فلسطيني. ولو نجحت إسرائيل في قتل كبار قادة حماس فسيحلّ مكانهم على الفور جيل جديد أكثر راديكالية من الجيل الحالي. فحماس واقع من وقائع الحياة، وهي لن ترحل ولن ترفع الراية البيضاء، بصرف النظر عن حجم الإصابات التي تعانيها”… وهذا جزء من السجال الدائر اليوم.

“يصف تشومسكي “إسرائيل” بأنّها “أكثر الآلات الحربيّة تقدّمًا تكنولوجيًا، والأكثر تقهقرًا أخلاقيًا في العالم””

يصف تشومسكي “إسرائيل” بأنّها “أكثر الآلات الحربيّة تقدّمًا تكنولوجيًا، والأكثر تقهقرًا أخلاقيًا في العالم”، مستنكرًا في الوقت عينه “عدم قيام العرب بأي شيء في مواجهة قيام الإسرائيليين بذبح الأطفال الفلسطينيين، تمامًا مثلما غضّ الأوروبيون الطرف عندما ارتكب النازيون المحرقة”.
يؤكد تشومسكي على أنّ الكيان الصهيونيّ “يتمكن من ممارسة أفعاله بوحشيّة قصوى، بفضل الدعم الأميركيّ القويّ ومشاركته في التعذيب الساديّ والجبان لشعب مسجون لا إمكان لديه للهرب فيما يُقصف بأكثر إنتاجات التكنولوجيا العسكرية الأميركية تطوّرًا إلى أن يتحوّل إلى غبار. وهذه التكنولوجيا تُستخدم على نحو ينتهك القانون الدوليّ، بل والقانون الأميركيّ، بيد أنّ ذلك يُعدّ مجرّد أمر تقنيّ للدول التي أعلنت نفسها خارجة على القانون”… فما أشبه اليوم بالأمس. ويستشهد تشومسكي بوصف “أحد المتطوعين الأبطال في غزة، الطبيب النرويجي مادس غيلبرت، مشهد الرعب على أنّه حرب شاملة على السكان المدنيين في غزة، إذ قدّر بأنّ نصف الإصابات لحقت بالنساء والأطفال، وقلّما رأى ضحية عسكرية وسط مئات الجثث (…) وبالتالي فإنّ عديد حماس بقي سليمًا ولحقت المعاناة الكبرى بالمدنيين، وتلك نتيجة إيجابية (بالنسبة إلى الإسرائيليين) بحسب العقيدة المعتمدة على نطاق واسع”.

فلنقرأ بتمعّن هذا المقطع من نصّ تشومسكي: “مُنح الجنود المقاتلون في شمال غزة زيارة (مُلهمة) قام بها حاخامان رئيسان شرحا لهم أن لا وجود لأبرياء في غزة، وبالتالي يُعدّ كلّ من فيها هدفًا شرعيًّا. واستشهدا بمقطع مشهور من المزامير يدعو الله إلى الإمساك بأولاد مضطهدي إسرائيل وضربهم بالصخور. لم يأتِ الحاخامان بكشف جديد، فقبل ذلك بسنة كتب حاخام اليهود الشرقيين الأكبر السابق إلى رئيس الوزراء أولمرت يبلغه أنّ جميع مدنيّي غزة مذنبون جماعيًا بالهجمات بالصواريخ، ولا يوجد بالتالي أيّ حظر أخلاقيّ على الإطلاق ضدّ قتل المدنيين من دون تمييز، من خلال هجوم كبير محتمل على غزة يهدف إلى وقف عمليات إطلاق الصواريخ، وفق ما نقلت صحيفة جيروزاليم بوست عنه فتواه. وتوسّع ابنه، وهو كبير حاخامات صفد، بالقول: إذا قتلنا مئة منهم ولم يتوقفوا علينا أن نقتل ألفًا، وإذا لم يتوقفوا بعد الألف نقتل عشرة آلاف. وإذا لم يتوقفوا، مع ذلك، علينا أن نقتل مئة ألف، بل وحتى مليونًا، مهما استلزم الأمر لجعلهم يتوقفون”… ومرّة جديدة، ما أشبه اليوم بالأمس.

“إبادة المدنيين عمدًا، وعن سابق تصوّر وتخطيط وتصميم، هي في العقيدة والممارسة الصهيونيتين، بحسب ما يكشف لنا المفكر الأميركي، نوعم تشومسكي”

هذا الفصل الخاص بنوعم تشومسكي في كتاب فينكلستين يستهلّه المفكر الأميركي الكبير باستعادة ما حصل يوم السبت 27 ديسمبر/ كانون الأول عام 2008 “حين شنّ الأميركيون والإسرائيليون آخر هجوم لهم على الفلسطينيين المغلوبين على أمرهم. وقد استغرق التخطيط للهجوم، بحسب الصحافة الإسرائيلية، أكثر من ستة أشهر، واشتمل التخطيط على عنصرين: الجيش والدعاية، وارتكز على الدروس التي تعلّمتها إسرائيل من اجتياح لبنان عام 2006 الذي عدّ سيّئ التخطيط والدعاية. ويمكننا التأكد، إلى حد بعيد، من أنّ ما عُمل وقيل كان مقصودًا وسبق التخطيط له. ويتضمن ذلك بالتأكيد توقيت الهجوم: قُبَيْل الظهر، لدى عودة التلاميذ من المدارس، ومع تكاثر الحشود في شوارع مدينة غزة ذات الكثافة السكانية العالية. ولم يستغرق الأمر أكثر من بضع دقائق لقتل ما يزيد على مئتي شخص وجرح سبعمئة، في افتتاح منبئ بمذبحة جماعية في حقّ المدنيين العزّل العالقين في قفص صغير، ولا مكان لهم يهربون إليه”… هذه الصورة تسري أيضًا وأيضًا على اللحظة الراهنة، فقفص غزة الصغير لا يزال هو عينه القفص الصغير، بل السجن، أو المعتقل، الأكبر على الإطلاق في العالم.
إبادة المدنيين عمدًا، وعن سابق تصوّر وتخطيط وتصميم، هي في العقيدة والممارسة الصهيونيتين، بحسب ما يكشف لنا المفكر الأميركي، نوعم تشومسكي، بالوقائع والأدلة والتصريحات الصهيونية. بالتالي، لا حاجة بنا بعد الآن إلى السؤال والبحث عن الدوافع، كما لا مجال للتشكيك، أو المناقشة. قتل المدنيين وإبادتهم بالآلاف وعشرات الآلاف “دوغما” صهيونية مدعّمة بالفتاوى “الحاخامية”، وبالنزعات الجنونية، إلى حدّ “زعم” الجنون والتظاهر به حين يقتضي الأمر ذلك، تمامًا مثلما يفعل اليوم مجلس حرب الكيان المستعمر المحتلّ الذي لا يبرّر جرائمه ومحارقه من غزة فحسب، بل يجاهر بـ”جنونه” باسم مصلحة الكيان الصهيونيّ “المهدّد وجوديًّا”، فحين يتعرّض هذا الكيان المتوحش للتهديد الوجودي يصبح جنونه التوراتيّ ـ التلموديّ ـ الخرافيّ المسعور مبرّرًا لا حَرَج فيه ولا وازع. جنون إجراميّ هستيريّ يتكبدّه اليوم شعب غزة في البقعة المحاصرة، المنكّل بها، ضمن محرقة تُنقل مباشرةً بالصوت والصورة إلى شعوب الأرض قاطبةً. محرقة لم يعرف الزمن الحديث لها مثيلًا، على أيدي وحوش تحمل هيئات بشرية لن تلبث أن تسقط الأقنعة عن وجوهها الحقيقية.
جورج كعدي
*ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock