أخبار لبنانية

قضاة الشعب أم قضاة المنظومة المصرفية؟ (ميشال ن. أبو نجم)

ما أشبه إيطاليا بلبنان، في تداخل المافيا وترسخ هيمنتها على السياسة. الفارق يكمن في الحجم والعنف بعدما سيطرت “كوزا نوسترا” و”ندرانغيتا” وغيرها من أسماء مجموعات المافيا على الدولة الإيطالية وشاركت في صناعة السياسة على مدى عقود، وصنعت مجالسَ نيابية وأحزاباً وحكومات. ومن بين أوجه الشبه بين لبنان وإيطاليا، أن المافيا متجذِّرة في المقاطعات الإيطالية كما في صقلية وكالابريا ونابولي وغيرها، والأهم أنها متغلغلة في كل المجتمع، من بلديات ومستشفيات ومؤسسات أمنية.
وهذه المافيات لا تزال مستمرة في العمل، مع الفارق أن الإنتفاضة التي بدأت تهز المجتمعات الإيطالية سمحت لقضاة شجعان أن ينقضوا على المافيا ويسحبوا رؤوسها منذ أوائل التسعينات واحداً تلو الآخر إلى المحاكمات والسجون.

عاملان سمحا بكسر المافيا والإنتقال إلى الهجوم الإستباقي عليها: كسر قاعدة الصمت “أوميرتا” المتعارف عليها في أوساط المافيا، وخاصة في الإعلام، وشجاعة قضاة قرروا أن يدخلوا تاريخ بلادهم من باب المجد والإلتزام الأخلاقي، لا أن يكونوا مطأطئي الرؤوس أمام القيادات السفيهة والجلِفة للمافيات الإجرامية. وعدا القاضي روكو شينيسي الذي سقط في العام 1983، والقاضيين الشهيرين جيوفاني فالكوني الشهير وباولو بورسيلينو اللذَين قضيا بفارق شهرين عن بعضهما في العام 1992، سقط قضاة شباب ومن بينهم روزاريو ليفاتينو الذي اغتالته المافيا في أيلول 1990 عن عمر 38 عاماً.

في لبنان، أنقذ بضعة قضاة شرف القضاء اللبناني وفي طليعتهم الأيقونة غادة عون التي سيخلد إسمها في تاريخ لبنان وعدالته المسحوقة. لكن هذا أمر، والفكاهة السوداء التي يصر بعض القضاة على استكمالها حتى الرمق الأخير، أمر آخر، وأخطر.
فلم تعد قضية السعي لطرد غادة عون من القضاء، وتحويل رياض سلامة إلى بطل ومنقذ، مسألة نمرّ عليها ونستنكر وندين. في بلدنا وفي هذا التوقيت بالذات، يكشف الإعلام اللبناني أن قاضياً إسمه شربل أبو سمرا يقدم لمتهم لديه السيكار الفاخر، ثم يوفر له المخارج التافهة تحت شعار “لم يتم العثور عليه”، مع العلم أن مكان إقامة رياض سلامة معروف جيداً، حتى أن معلومات كشفت في الأمس أنه كان يتجول بحرية لمسافة طويلة من بيروت إلى شرق بعلبك، في ضيافة أحد الذين يتعامل معهم. قضاة لبنانيون يجرّمون القاضي الشريف، ويسعون بكل قوتهم لحماية المتهم بسرقة ملايين الدولارات من خزينة اللبنانيين ومن أموالهم.
وفي السابق، منح الرئيس ميشال عون في فترة ولايته كل الدعم للقضاة لمباشرة عملهم، حتى أنه عين سهيل عبود رئيساً لمجلس القضاء الأعلى متجاوزاً عدم قربه منه سياسياً، ومتخطياً بالتالي موبقات النظام السياسي اللبناني في هيمنته على مفاصل الدولة. ولاحقاً، لم يحنث عبود بقسمه أمام رئيس البلاد فحسب، بل بقسمه أمام الشعب اللبناني بحماية القضاء وإحقاق الحق حين تُحاصر القاضية الشريفة، ويقف مكتوف الأيدي ومكموم الفم أمام المعلومات عن تشرف شربل أبو سمرا…

ما يحصل اليوم في مراحل تاريخية من مسيرة لبنان وشعبه، ليس فقط التغاضي عن جرائم مالية، ومحاولة حماية المنظومة المصرفية – السياسية – المالية الأخطبوطية، بدعاية إعلامية لم يسبق لها مثيل. هي ليست مسألة قضاء فحسب، وقضاة قرروا أن يخرجوا من التاريخ حماةً للمشتبه بهم والمختلسين والمجرمين… إنها مسألة تلطيخ تاريخ لبنان، وتلطيخ سمعة العدالة المفترض أن تكون رهبانية رسولية، كما القداسة… إنها مسألة انحطاط عام في لبنان، وحدهم قلة طليعية من ناشطين ومقاومين وقضاة شرفاء، قرروا كسر “الأومرتا” ومحاربة المافية حتى النهاية، بكلام آخر قرروا إنقاذ سمعة شعبهم وسمعة لبنان…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock