علوم وتكنولوجيا

أحزمة “فان ألين”.. تقنية اجتياز الوحش الذي يحرس أطراف الكوكب

يستشهد المؤمنون بنظرية مؤامرة الصعود إلى القمر بحقيقة وجود حزامي “فان ألين” اللذين يطوقان الأرض عند مسافات شاسعة في الفضاء، فهما يقفان حجر عثرة أمام بلوغ رواد الفضاء غايتهم على حد تعبيرهم، ولعلّها جملة تحمل جزءا من الصواب، لكنها ليست الحقيقةكاملة.

ويرى مكذبو برنامج “أبولو” الأمريكي الذي حطّ بالإنسان على سطح القمر في أواخر ستينيات القرن الماضي، أنّ حزامي “فان ألين” لن يسمحا لرواد الفضاء ولا حتى لمركباتهم بالمرور عبرهما لشدّة النشاط الإشعاعي الموجود في تلك المنطقة، وهو أمر صحيح بلا شك، لكن النقطة المفقودة هنا هو فهم التقنية التي اعتمدتها وكالة ناسا الفضائية في تحقيق مهمتها.
وقد كان مكتشف هذه الأحزمة عالم الفضاء الأمريكي “جايمس فان ألين” هو أحد أشد المتحمسين لسباق استكشاف الفضاء، فضلا عن امتلاكه عضوية في مجلس علوم الفضاء التابع للأكاديمية الوطنية للعلوم وفي مجلس البعثات القمرية والكواكب التابع لناسا. وهو من أبطل مرارا وتكرارا الخطأ الشائع السطحي في فهم رحلات الفضاء إلى القمر في عدة مقالات متلفزة.1

وفهمنا لطبيعة تلك الأحزمة المشعة سيدفعنا تلقائيا إلى إدراك المهارات العالية التي اتبعها مهندسو الفضاء للتحايل على تلك الأحزمة التي تنشأ بوجود عاملين أساسيين؛ هما الغلاف المغناطيسي المحيط بالأرض، والرياح الشمسية القادمة من الفضاء السحيق.
الغلاف المغناطيسي للأرض
يحيط بالأرض غلاف مغناطيسي غير مرئي ناتج عن وجود الحقل المغناطيسي، ويمتد إلى مسافات كبيرة، حيث تتفاعل الجسيمات المشحونة كالبروتونات والإلكترونات عند نقاط محددة، ويعد الغلاف المغناطيسي للأرض في حالة ديناميكية غير مستقرة، وهو في طور متغير بسبب تأثره بعدة عوامل، مثل دوران الأرض حول نفسها، وحركة الموائع المنصهرة في لب الكوكب، والتفاعلات المستمرة بين المجال المغناطيسي والرياح الشمسية. ونتيجة لذلك، فإنّ المجال المغناطيسي للأرض له شكل معقد وغير منتظم.
كما لا تحظى الأرض وحدها بهذا الغلاف المغناطيسي من بين الأجرام السماوية التي نألفها، بل هناك كواكب أخرى تمتلك غلافا مماثلا قويا مثل عطارد والمشتري وزحل وأورانوس وحتى الشمس نفسها. ويُعزى ظهور الغلاف إلى الوجود إلى نظرية الدينامو في علم الجيوفيزياء، وتنص على أنّ الطبقة الخارجية السائلة من لب الأرض تحتوي على حديد نقي ومنصهر شديد التوصيل، يولّد تيارات كهربائية شديدة بفعل حركة دوران الأرض، واستنادا إلى قانون الفيزيائي الفرنسي “أندريه أمبير” المكتشف عام 1832، تولد تلك التيارات الكهربائية بدورها حقلا مغناطيسيا.2
ويمكن تطبيق ذلك عمليا باستخدام قطعة من الحديد، ولفها بسلك يمر عبره تيار كهربائي، لنحصل لاحقا على قطعة حديدية ممغنطة محاطة بحقل مغناطيسي ثنائي القطب، ويطلق عليهما -في الأوساط العلمية- القطب الشمالي والقطب الجنوبي.

وتكمن أهمية الغلاف المغناطيسي للأرض في التصدي للرياح الشمسية والأشعة الكونية التي تحتوي على جسيمات مشحونة بإمكانها القضاء على طبقة الأوزون في الغلاف الجوي، وهي طبقة تحمي الكائنات الحية على سطح الأرض من الأشعة فوق البنفسجية الضارة والمسرطنة القادمة من الشمس.
الشمس.. مصدر طاقة ومنبع إشعاعات لا ينضب
تقع الشمس في مركز المجموعة الشمسية وتشكل كتلتها 99% من الكتلة الكلية للمجموعة الشمسية، وتعد الشمس المصدر الرئيس للطاقة والحرارة لكوكب الأرض ولبقية الكواكب على حد سواء، ويقدّر علماء الفلك عمر الشمس بـ4.6 مليارات سنة، ووفقا لكمية الوقود في جعبتها، فإنها ما زالت في منتصف عمرها، ويمكن أن تعيش بين 5-6 مليارات أخرى.
وتمثل الشمس مصدر طاقة هائلا يمد كوكب الأرض باستمرار، فكمية الطاقة الشمسية التي تصل إلى الأرض في الساعة الواحدة يعادل ما تستهلك جميع البشرية خلال عام كامل. وإذا وضعنا ذلك حسابيا، يصل إلى الأرض من الشمس إلى طاقة تعادل 430 كوينتيليون جولا كل ساعة (الكوينتيليون هو العدد واحد وأمامه 18 صفرا، أما الجول فهو وحدة طاقة).

إنها كمية ضخمة بلا شك، وإذا ضربنا هذا الناتج بعدد الساعات التي مضت خلال 4.6 مليارات سنة (عمر الشمس التقديري)، فإننا سنحصل على ناتج أكبر وأضخم بكثير. لذا تبدو الشمس مولد طاقة لا ينضب ولا ينفد وقوده، بالإضافة إلى المسافات الشاسعة التي تقطعها الأشعة الشمسية في الفضاء.

ولا تحدث أي عمليات احتراق في الشمس، وإنما لتوليد ذلك الكم الهائل من الطاقة لا بد من عمليات ذات كفاءة أعلى بكثير، وهي ما يعرف بعمليات الاندماج النووي، إذ تندمج أنوية ذرات الهيدروجين تحت ضغط وحرارة هائلين لتشكل أنوية عنصر أثقل هو الهيليوم، وينتج أثناء عملية الاندماج ضوء وإشعاعات وطاقة هائلة تجعل سطح الشمس يسطع بلون أصفر، وبدرجة حرارة تبلغ 5770 درجة مئوية.
وتنتج تلك التفاعلات النووية المستمرة جسيمات مشحونة (غالبا إلكترونات وبروتونات) تحتوي على طاقة حركية عالية، مما يسمح لها بالهروب من الطبقة الخارجية للشمس المعروفة باسم طبقة “كورونا”، فتتجه نحو الفضاء الخارجي في جميع الاتجاهات على هيئة رياح شمسية، قوامها الأساسي من البلازما (خليط من الأنوية الذرات والإلكترونات شديدة الحرارة).3

وترتبط قوة تلك الرياح الشمسية بالدورة الشمسية المكتَشفة على يد عالم الفلك الألماني “هنريش شوب” عام 1843، بعد مراقبة طويلة لسطح الشمس. وتتمثل الدورة الشمسية بالتغير الدوري لنشاط الشمس وتوهجها، وتقدر مدتها بـ11 عاما إذ تنقلب فيها أقطاب الشمس المغناطيسية.
حزاما “فان ألين”.. وحش مرعب داخل الغلاف المغناطيسي
إن التفاعل بين الرياح الشمسية والغلاف المغناطيسي للأرض يشكّل حول الأرض حزاما مشعا يحتوي على جسيمات عالية الشحنة من البروتونات والإلكترونات، ويشهد وجود أنوية أخرى مثل جسيمات ألفا بانتشار محدود. ويأخذ هذا الحزام شكلا حلقيا على شكل إطار، وينقسم إلى قسمين أساسيين اكتشفا لأوّل مرة بواسطة القمر الصناعي “اكسبلورر 1” عام 1958، وقد سميّت أحزمة “فان ألين” تيمنا بعالم وكالة ناسا الأمريكي “جيمس فان ألين” الذي كان أول من تنبأ بوجودهما.
يوجد حزاما “فان ألين” داخل الغلاف المغناطيسي، ويمتد الحزام الداخلي من مسافة ألف إلى 5 آلاف كم من سطح الأرض، في حين يمتد الحزام الخارجي من 13 ألف إلى 60 ألف كم، ويُطلق عليه مجازا المنطقة الآمنة. ويفصل بين هذين الحزامين حيز مكاني لا يحتوي على الكثير من الجسميات النشطة ويُعرف بالمنطقة الفارغة.4

يتكون الحزام الداخلي بشكل أساسي من البروتونات عالية الطاقة، مع طاقات تتراوح من بضع مئات من الكيلو إلكترونفولت (keV) إلى عدة ميغا إلكترونفولت (MeV). بينما تنحصر البروتونات في المجال المغناطيسي للأرض، وتتبع مسارا موازيا تقريبا لخطوط المجال المغناطيسي للأرض. والإلكترونفولت هي وحدة قياس كمية الطاقة الحركية التي يكتسبها الجسيم دون الذري.

وأما الحزام الخارجي فيحتوي في مجمله على إلكترونات، مع طاقات تتراوح ما بين بضع عشرات من الكيلو إلكترونفولت إلى عدة ميغا إلكترونفولت، وتتخذ الإلكترونات مسارا عموديا تقريبا على خطوط المجال المغناطيسي.
يمكن أن تختلف قوة وشكل أحزمة “فان ألين” بالنظر إلى عدة عوامل، منها قوة واتجاه المجال المغناطيسي للأرض، وشدة الرياح الشمسية، والمسافة الفاصلة بين الأرض والشمس. فعلى سبيل المثال، خلال فترات النشاط الشمسي المرتفع، فإنّ من المرجح أن يتسبب ذلك في انضغاط الأحزمة والاقتراب نحو الأرض.

ويأخذ العلماء ومهندسو الفضاء أحزمة “فان ألين” على محمل الجد في أثناء إرسال بعثاتهم الفضائية، بسبب خطورتها وقدرتها على الفتك بالإنسان والآلة على حدٍ سواء. لأن بمقدور هذه الأحزمة أن تدمر النظام الإلكتروني، وتتلف القطع الإلكترونية، وتعطل إشارات الاتصال لأيّ مركبة فضائية أو قمر صناعي إذا لم يُجرَ الاحتراز المناسب.
ففي عام 1962 تعرض القمر الصناعي الأمريكي “تيلستار 1” (Telstar 1) للتلف الكامل بسبب الأضرار الناجمة من الإشعاعات والجسيمات النشطة في حزام “فان ألين”، إذ تعطلت الخلايا الشمسية وأجهزة الإرسال والأجهزة الإلكترونية الأخرى بشكل كامل في ظرف 7 أشهر.5

“أبولو 11”.. فاتحة الرحلات الخمس التي تحدت الأحزمة
لقد كان اكتشاف أحزمة “فان ألين” بمثابة ضربة قاسية بالنسبة لمهندسي الفضاء والتواقين إلى اكتشاف ما وراء الغلاف الجوي، فوجود هذه الأحزمة سيحد من الرحلات الفضائية، وسينخفض سقف التوقعات لما هو أبعد من أخفض نقطة للحزام الداخلي المقدرة بنحو ألف كم من سطح الأرض، وعليه فإنّ جميع الأقمار الصناعية ورحلات الفضائية ستبقى في فضاء ضيّق قياسا على الفضاء الخارجي بمجمله، وهذا إذا ما علمنا بأنّ أبعد نقطة وصلها الإنسان حينذاك كانت بواسطة رائد الفضاء الروسي “يوري غاغارين” وتقدر بـ327 كم.

وفي 20 يوليو/ تموز عام 1969 أعلنت حكومة واشنطن عن رسوّ مركبتها الفضائية “أبولو 11” على سطح القمر، ثمّ لحقه مباشرة إطلاق بثٍ مباشر لسكان كوكب الأرض لأوّل مرة، فظهر رائدا الفضاء “نيل أرمسترونغ” و”إدوين ألدرين” وهما يقومان بأعمال شتى، وخلفهما بزغت الأرض.

ولو علمنا بأنّ متوسط المسافة التي تفصل بين الأرض والقمر تعادل 384 ألف كم، فإنّ ذلك لا يترك مجالا للشك بأنّ المركبة الفضائية قد اجتازت المنطقة الخطيرة و”المحظورة”، منطقة أحزمة “فان ألين”، وليس مرّة واحدة فحسب، بل مرتين جيئة وذهابا.
وفي غضون 3 سنوات، تبعت الرحلة الأولى 5 رحلات أخرى من ضمن برنامج “أبولو” لاستكشاف القمر، لتكون المحصلة بأنّ 18 رائد فضاء قد خاضوا غمار أشعة “فان ألين”، وعادوا سالمين مع بعض الوعكات الصحية الجانبية الناتجة عن غياب الجاذبية.

عدا عن ذلك، لم تشهد السجلات أيّ حالة صحية خطيرة سُجّلت، وهو ما دفع باب من التساؤلات وحتى التشكيك في حقيقة صعود الإنسان إلى القمر، لا سيما أنّ هذه الأحزمة -كما علمنا سابقا- فتاكة على صعيد الأعضاء الحيوية وعلى المعدات الإلكترونية.

وفي الحقيقة فإن وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا” قد اعتمدت حِيَلا لتجاوز أحزمة “فان ألين”، والخروج بأقل الأضرار الممكنة، رغم صعوبة المهمة وتعقيدها الكبير. وقد لعبت الوكالة على وترين لضمان نجاح المهمة، أوّلا فيما يتعلق بجاهزية المركبة وتدبيرات السلامة بالنسبة لرواد الفضاء، وثانيا فيما يتعلق بمسار الرحلة وتوجيهها.

ضرب الحزام.. اختبارات نووية زادت حجم الفوضى
في بادئ الأمر حاول الأمريكيون إزالة جزء من الجسيمات النشطة العالقة في أحزمة “فان ألين” وتشتيتها لإفساح الطريق لمركباتهم الفضائية للعبور، وأيضا لدراسة تفاعل الأحزمة والغلاف المغناطيسي مع الأشعة النووية الناتجة عن النشاط البشري.

وعليه فقد جرت سلسلة من التجارب النووية في مستهل ستينيات القرن الماضي، وأطلق عليها “عملية دومينيك”. وقد تضمنت مجموعة من اختبارات الغلاف الجوي تُعرف بأحداث “حوض السمك”، وكان أعلاها ارتفاعا تجربة “ستارفيش برايم” التي جرت على ارتفاع 400 كم في 9 يوليو/تموز 1962 بقنبلة نووية تزن 1.4 ميغا طن.

وعلى عكس التوقعات كانت النتائج غير محمودة، فبدلا من إزالة حزام “فان ألين” الداخلي، أضافت الأشعة الناتجة عن الانفجار مزيدا من الجسيمات النشطة، وكان الاتحاد السوفياتي يعمل على اختباراته النووية في نفس العام، مما أدى إلى زيادة كثافة الحزام الداخلي إلى نحو مليون مرّة، وهو ما أتلف عددا من الأقمار الصناعية الموجودة آنذاك. وبحلول عام 1969 كانت جسيمات الإلكترون عالية الطاقة قد تلاشت إلى قرابة العُشر.

درع الوقاية.. تصميمات ذكية وتدريبات لحالة الطوارئ
لقد كان علماء ناسا على دراية جيدة بنوع وتوزيع الجسيمات ومستوى طاقاتها في الأحزمة، بسبب الدراسة والمراقبة المكثفة، فالإلكترونات والبروتونات هي جسيمات دون ذرية توجد بكثرة في الفضاء الخارجي، وعندما تتحرك تلك الجسيمات بسرعة عالية، يتعامل معها على أنها تمتلك مستوى عاليا من الطاقة.

وتعد الإلكترونات ذات مستوى طاقة أقل من 1 ميغا إلكترونفولت من غير المحتمل أن تكون خطيرة، وكذا الحال بالنسبة للبروتونات التي يقل مستوى طاقتها عن 10 ميغا إلكترونفولت.
وكلما زاد نشاط الإلكترون، وبالتالي زادت طاقته؛ فإنّ قدرته على اختراق الأجسام والمواد تزداد، فعلى سبيل المثال، يُعد البروتون ذات طاقة 3 ميغا إلكترونفولت قادرا على اختراق صفيحة ألمنيوم بسُمك 6 مم فقط. وفي حال ارتفعت طاقته نحو 100 ميغا إلكترونفولت فإنّ قدرة الاختراق تزداد، ويصبح بمقدوره اختراق ذات الصفيحة، لكن بهامش أكبر وبسُمك 40 مم. ومن المعلوم أن الألمنيوم يُستخدم بكثرة في صناعة الفضاء. وبناء على المعلومات المستخلصة بُني درع واقٍ يحمي المركبة الفضائية والروّاد بسماكة تتلاءم مع أشد المناطق إشعاعا في الحزامين.

صممت المركبة الفضائية بنظام درع يستخدم طبقات من المواد، مثل الألمنيوم والفولاذ المقاوم للصدأ والبلاستيك لتوفير بعض الحماية من الإشعاع، وكانت جدران المركبة الفضائية سميكة بما يكفي لامتصاص وتحويل بعض الأشعة، مع الحرص على عدم إضافة كثير من الوزن إلى المركبة. كما بُطّنت حجرة طاقم المركبة بطبقة من الرصاص لتوفير حماية إضافية للروّاد.6

إضافة إلى حماية المركبة الفضائية، كان رواد الفضاء يتدربون على اتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية أنفسهم من الإشعاع على مستوى شخصي، ومنها التحصن بأكياس المياه التي بمقدورها امتصاص بعض الإشعاع، ووضع أنفسهم خلف الأجزاء السميكة من جدران المركبة الفضائية خلال فترات الإشعاع العالي. كما تلقى رواد الفضاء تدريبات في مجال السلامة الإشعاعية وآثار الإشعاع على جسم الإنسان.
مسارات الرحلة.. كل الطرق تؤدي إلى القمر
إنّ الوصول إلى القمر من الأرض ليس مرهونا بطريقة واحدة فحسب، فهناك عدة طرق ومسارات توصل إلى أقرب الأجرام السماوية إلى الأرض، وكذا ينطبق الحال على بقية الأجرام، ويعتمد كلّ مسار على خصائص وأغراض الرحلة، كما أنّ هناك دائما المسار الأكثر فعالية وأقل تكلفة لكل رحلة فضائية، وتدخل عملية دراسة المسارات ضمن علوم “ميكانيكا المدارات”
وعند تخصيص الحديث عن المسار نحو القمر، فإنّ مصطلحا شائعا يستخدم هاهنا، وهو مناورة “الدخول في المدار الانتقالي القمري”، أي المدار الانتقالي الذي يربط بين مدار المكوك الفضائي حول الأرض وبين مداره لاحقا حول القمر، والعكس صحيح.

ومن الناحية التاريخية لم تكن رحلات “أبولو” هي الأولى التي تشق طريقها نحو القمر، بل كان ثمة أكثر من 40 محاولة أمريكية وروسية سابقة تخللها نجاح بارز، مما دفع الأمريكيين إلى تبني فكرة إرسال أول رائد فضاء إلى سطح القمر. جميع تلك الرحلات أجريت عليها التجارب في اختيار الطرق المثلى في تفادي أحزمة “فان ألين”، وهذا يُعد ممكنا للغاية إذا ما درسنا شكل الأحزمة، وبحثنا عن مكامن قوتها وضعفها.7
حلاوة الدونات.. تحديات مكلفة للإفلات من الجاذبية
كما أشرنا سابقا فإنّ أحزمة “فان ألين” تشبه حلاوة الدونات الحلقية، فعند قطبي الغلاف المغناطيسي يحدث انعطاف شديد، وفي هاتين المنطقتين أدرك العلماء بأنّ شدة الإشعاع تنخفض للغاية مقارنة بالمناطق الأخرى في الأحزمة.

وعليه فإنّ الطريق المثالي هو الصعود إما من القطب الشمالي أو القطب الجنوبي للغلاف المغناطيسي، وهو ما يخلق إشكاليتين؛ فكلما ابتعدنا من خط الاستواء تطلب الأمر وقودا أكثر للهروب من جاذبية الأرض، لأنّ قطر الأرض يصغر، وبالتالي نخسر جزءا من سرعة الأرض الدورانية، والإشكالية الأخرى هي عدم تطابق الغلاف المغناطيسي مع مستوى دوران الأرض حول الشمس، إذ يوجد انزياح على مستوى القطب الشمالي المغناطيسي بنسبة 11.4 درجة.
إن ذلك من شأنه أن يصنع مزيدا من التعقيدات في حساب المدار، وإذا لم يكن كل شيء في منتهى الدقة، فإنّ الخطأ قد يكلّف الأرواح. ورحلة المكوك الفضائي مرتبطة كلها ببعضها مهما كانت الوجهة بعيدة عن نقطة الانطلاق. فالهبوط الصحيح السليم على سطح القمر يعتمد تماما على حركة الصاروخ في لحظة إطلاقه الأولى.

ورغم ذلك، فإنّ ناسا استطاعت حقا أن تعبر تلك الأحزمة بنجاح، وأن تصل إلى سطح القمر في ست رحلات متفرقة، بعد عمل دؤوب في دراسة أحزمة “فان ألين”. وما زال العلماء حتى هذا اليوم في طور تحسين المركبات الفضائية القادرة على اجتياز الأحزمة دون الحاجة إلى خسارة الوقود.

وفي عام 2012 أطلقت ناسا مشروعها المتمثل بمسباري “فان ألين” (Van Allan Probes) لدراسة ديناميكية الأحزمة وتأثيرها على الفضاء الخارجي.

المصادر:
[1]سافونفا، مارجريتا (2019). كيف عملت ناسا حول أحزمة إشعاع الأرض للهبوط أبولو 11 على القمر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock