أخبار عربية ودولية

مصر “مريضة”.. وفلسطين تشتاق إلى عبد الناصر!

علي فضّة |
يحزُّ في نفس أي كاتبٍ يؤمن بأحقيّة قضية فلسطين والعرب عمومًا، التحدث عن مصر في هذا الزمن، أو مصر “كامب دايفيد” بشكل محدّد، سيّما أننا نعيش بمرحلة كتابة التاريخ من جديد.

طوفان الأقصى فَرَض ذلك، فوقعه على صيرورة التاريخ يجبر عدم تخطيه، وإن كل محاولات القفز من فوقه ستبوء بالفشل، كما محاولات تشويهه. هذا الحدث الجلل لا يعفي من إعادة النظر في التاريخ، وإعادة استقرائه بمنهجيّة إستبصاريّة، كحدٍ أدنى لتوصيف إفرازاته الآنيّة، خصوصًا أنّ الدبابات الإسرائيلية تستعرض نفسها في معبر رفح على بعد أمتار من الحدود المصرية، في محاولة لاستكمال الإبادة الجماعية إذا لم يتم لجمهم!

تجربتي مع المثقَّف المصري
صراحة ودون تعميم، تجربتي مع المثقَّفين المصريين لم تكن جيدة، سيّما من يهتم منهم بالسياسّة. مقارباتهم وأحكامهم المبرمة على حقبة كانت عبارة عن فكرة، لهويّة مصر ودورها وشخصيتها، أظن أنها في غير محلها.

الحديث عن حقبّة الرئيس جمال عبد الناصر، رؤية أغلبهم، يراها حسابيًا، ومقارباتهم مرهونة بمدى الربح والخسّارة. كأنّ ناصر هو الوحيد الذي هُزم بمعارك. صلاح الدين الأيوبي قبل فتحه للقدسّ هُزِم، قبل معركة حطين وبعدها، هزائم متتالية، وأولاده عادوا وخسروا القدس.

هل قياس القائد يكون عن مدى ربحه وخسارته في المعارك التي فرضت والمعارك والدعم المفروض القيام به؟

عبد الناصر أسس شخصية مصرية ذات حضور وفكرة عربية، وأفريقيّة أيضًا. في عهده كانت مصر المحور وكلمة السرّ، الفكرة استمرارية يأتي بعده من يكملها.

مثلًا، قبل تأسيس السلطنة العثمانية كانت قبائل الأغوز- التركية، وأسيادها، يتبادلون الرسائل بكلمة سرّ “التفاحة الحمراء”، أي “القسطنطينية”، إسطنبول حاليًا، تبادلوها جيلاً بعد جيل، حتى تأسست السلطنة العثمانية، وأتى السلطان السابع محمد الثاني الملقب بـ”الفاتح” وحقق فتحها.

العبرة بالاستمرارية. ناصر كحالة كاريزماتيّة، سنيّة تحديدًا (آسف على التوصيف لكنها حقيقة)، كان محرّكاً للشعوب العربية، وهذا لم يكن مسموحًا غربيًا البتة. لكني أوافق على مناقشة حالته.

بخضم نقاشاتي مع بعض المصريين رأيتهم يرجمونها بالمطلق، وكأنّ من أتى بعده، ولغاية اليوم، بينهم من أعطى لمصر أهمية بقدر زمان ناصر على الصعد كافة، اقتصادياً وسياديًا واجتماعيًا وحتى فكريًا.

ما الذي يفسّر، مثلًا، إعجاب المثقف المصري بروجيه جارودي أكثر من مايلز كوبلاند؟ جارودي مستشرق أسلم ونحى نحو الإسلام الراديكالي. كوبلاند من مؤسسي وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية وعمل بوزارة التخطيط الأميركية، واضعًا كتابًا معنون بـ “لعبة الأمم”. ذنبه أنّه تحدث عن عبد الناصر فأصبح هذا الكتاب، بنظر بعض المثقفين المصرين، فاقدًا للمنهج الأكاديمي وغير معترف بهِ من قبل الأكاديميين الغربيين، علمًا أنّ كوبلاند القائل “كانت شكواي هي أن وكالة المخابرات المركزية لا تطيح بما يكفي من الحكومات المناهضة لأميركا، أو تغتال ما يكفي من القادة المناهضين لأميركا”. ما شأني بالرأي الغربي من كوبلاند؟ وهل هناك داعٍ لأعجب بكل كاتب، أم بحثي عن المعلومة هو الغاية؟! هنا تخال أنّ السادات، بطرده للخبراء السوفيات، طرد معهم فكرة الدور وأصبحت قراءات واستنتاجات المثقفين العرب عمومًا والمصريين خصوصًا ذات طابع استشراقي. إلّا البعض منهم الذين ما زالوا يعافرون ويحفرون بإبرة جدار كامب دايفيد.

كامب دايفيد
بمجرد النطق بـ “مصر اولًا” سلخت “أم الدنيا” عن الدنيا. هذا الإتفاق ليس مجرد استسلام للغرب فحسب، بل نظام حَكَم مصر، من دون أدنى مقومات الدول الفاعلة. نظام كامب دايفيد لن يأتي بأفضل من سامح شكري القائل “مصر لا تسعى لتكون دولة ريادية”. يعيبون على عبد الناصر خسارته سيناء، وهم يصفقون ويهللون ولا يرضون في أغلب الأحيان عن رؤساء تعاقبوا على حُكم دولة استعادت سيناء وخسرت مصر. ليس مفهومًا صراحة، انّ المؤمنين المؤثرين بقضايا جوهرية، كالقضية الفلسطينية، قلّة! ومجهودهم الدفاعي فردي. ونحن نتحدث عن مئة مليون مصري، وجيش جرار، غزاهم الاستشراق، وسُلبوا إرادتهم، وفقدوا روح المبادرّة. حتى قال لي أحدهم ذات مرة “نعم، عبد الوهاب المسيري أفضل من قدم شروحّات عن القضية الفلسطينية، وخصوصًا موسوعته ‘اليهود واليهودية والصهيونيّة’، ليكمل… لكنه كان قريبًا من الفكر الناصري”! يا لها من لعنّة… بمجرّد أن تكون مقربًا من فكرة ناصر.. تُثَلَبَ!

ليس من حقي أن أحاكمهم، فهذه مسألة للتاريخ فهو الحاكم طالما هناك أقلام تخط. وللتاريخ، يجب إنصاف مُفكّر كـأنطون سعادة الذي استشرف مبكرًا، مفسرًا الحالة العربيّة حيث قسمها لأقاليم: إقليم المغرب العربي وإقليم شبه الجزيرة والخليج عامة والإقليم السوري، مكملًا، أن لكل هذه الأقاليم مصالح مختلفة عن بعضها، وبالفعل لولا دخول اليمن على خط المواجهة بطوفان الأقصى لقدر لهذا الصراع ان يكون سوريًا بامتياز.

سأكتفي بهذا القدر، رغم أن مصر حاليًا تطلب الانضمام إلى دعوى جنوب إفريقيا ضد الاحتلال الإسرائيلي. جنوب، هي شمال على بعد أمتار من فلسطين. جعبتي مليئة بالحجج وعلى استعداد ان اناظر أفحلهم، بتواضع المحب لمصر التي أراها مريضة.

فلسطين تشتاق إلى جمال عبد الناصر، وعندما تشتاق فلسطين أحدًا، يكون في صلب الجانب الصحيح من التاريخ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock