أخبار لبنانية

هذه هي حقيقة ما يحصل في هيئة الأسواق المالية ومخاطر إقفالها كبيرة… (وليد قادري)

تُعرّف هيئة الأسواق المالية بأنها الجهة الرقابية على مؤسسات الوساطة والمؤسسات المالية والمصارف المتخصصة، وهي تهدف إلى حماية المستثمر وتطوير سوق المال. من هنا، وإلى جانب القانون الذي أنشئت على أساسه، وضعت الهيئة، بالتعاون مع البنك الدولي، أنظمتها الرقابية التي ينبغي على المؤسسات المرخصة الامتثال لها والتقيد بها. ترفع هذه المؤسسات ما هو مطلوب منها من مستندات بحسب القوانين المرعية الإجراء، فتراجع الهيئة طلباتها وتحرص على التأكد من أن هذه المؤسسات ملتزمة بأنظمة الهيئة حماية للمستثمرين في الدرجة الأولى. وأعطي مثالاً على ذلك، موضوع الأسهم التفضيلية الذي كانت محور أخذ وردّ، كما موضوع استثمار الأموال في الخارج عبر المؤسسات المرخصة من قبل الهيئة وكيف ترد هذه الأموال إلى المستثمرين ومواضيع أخرى كانت مدار بحث ومعالجة في مجلس الهيئة بعد الثورة.

هذا في ما عنى المؤسسات المرخصة، ولكن ثمة مؤسسات أخرى تقوم حالياً بممارسة أنشطة متعلقة بالأسواق المالية من دون حسيب ولا رقيب خلافاً للقانون. هذه المؤسسات تلاحقها عادة هيئة الأسواق المالية حتى يصل بها الأمر إلى النيابة العامة لوقف أنشطتها غير المرخصة.

لسوء الحظ أن المخالفات حالياً تبقى معلقة من دون أي إجراء والسبب هو ما يحاك للهيئة من جهة، ومن جهة أخرى، غياب لجنة العقوبات والمحكمة الخاصة اللتين نصّ عليهما القانون لكنهما لم يتم إنشاؤهما بعد، ما يجرّد الهيئة من القدرة على فرض العقوبات ويصعّب مهمة المحاسبة على القضاء أولاً الذي يفتقد لمحكمة متخصصة بالأسواق المالية، كما على المستثمر والمؤسسات المرخصة على حد سواء. وهذا على صعيد حماية المستثمر، أما على صعيد تطوير الأسواق فلا يخفى على أحد الدور الذي لعبته الأسواق المالية خلال الأزمات الاقتصادية التي عصفت في البلدان المحيطة بنا لا سيّما في ظلّ فقدان تام للثقة بالقطاع المصرفي والمصارف.

إنّ ما قيل أو كُتب عن تصفية هيئة الأسواق المالية عار من الصحة وعليه لا يستحق التعليق أو هو كلام غير مسؤول يحمّل مسؤولية كبيرة لأصحابه ومتبنّيه، لأنه ببساطة أن يقال سنقفل هيئة الأسواق المالية، كمن يقول لم تعد هناك موارد كافية متوفرة، تعالوا نلغي مؤسسة قوى الأمن الداخلي أو الأمن العام، ونعيد إطلاق عمل هذه المؤسسات عندما نجمع بعض الأموال لذلك. فمن مصلحة القطاع كما البلاد أن تكون هناك هيئة فاعلة توقف المخالفين والمؤسسات غير المرخصة وتفرض الإجراءات السليمة على المؤسسات المرخصة وفقا لأرقى معايير الشفافية. ومن الأهمية بمكان ألا يقتصر دور الهيئة على المراقبة بل يتعداه للمحاسبة أيضا، لنصل بهدف الهيئة إلى بر الأمان. من هنا الحاجة الملحة لإنشاء لجنة عقوبات ومحكمة خاصة للأسواق المالية.

ولكن بدل أن نسمع ونقرأ عن إصلاحات وكيفية فرضها لا سيّما في وقت الأزمات كتلك التي يشهدها البلد اليوم، وبدل تعزيز دور الجهات الرقابية وتحصينها بالعتاد اللازم لتأدية دورها، يجري العمل على إقفال هيئة رقابية. إذا كانت هي النيّة، فهذا يعني أن الهيئة ستكون حجر الدومينو الأول في الجمهورية اللبنانية الذي سيتهاوى خلال ولاية الحاكم بالإنابة وسيم منصوري، ومن بعدها فلننتظر ونشاهد توالي ضرب المؤسسات لا سيما الرقابية منها، وصولا إلى الارتطام الأكبر.

إن الحديث المُتناقل عن أن هيئة الأسواق المالية لزوم ما لا يلزم يعكس قلة معرفة وإدراك لأهمية دور أي هيئة رقابية وبصورة خاصة هيئة الأسواق المالية التي لم تنشأ إلا عام ٢٠١١، بمعنى أنها ليست إرثاً عن أيام غابرة وقد فقدت علّة وجودها أو الحاجة الملحة لها. ولكن من ناحية أخرى قد يكون هذا الكلام ناتجاً أيضا عن بعض التضارب في المصالح والكثير من الرغبة في إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل ٢٠١١، حين كانت مسؤولية مراقبة الأسواق المالية مناطة بمديرية معينة في مصرف لبنان. فهل تراود هذه الفكرة الحاكم بالإنابة أو نواب الحاكم، رغبة في توسيع مروحة مهام مصرف لبنان؟ كل شيء جائز.

وبعد أن كانت هيئة الأسواق المالية معروفة من القليلين، ثمة أخبار يومية تدور حولها يضعها البعض في خانة الشائعات، ومنها استقالة عضو مجلس الإدارة، ومشاكل التمويل واعتكاف عضو المجلس الإدارة المسيحي وتقاذف كرة التمويل بين الحكومة ومصرف لبنان.

وهنا لا بد من توضيح بعض النقاط ولنبدأ باستقالة أحد أعضاء مجلس الإدارة. حكي الكثير عن أنها تنذر بالإقفال والحقيقة أنّها لا تؤثر على النصاب المطلوب للمجلس وهو أربعة أعضاء فيما الأعضاء الباقون في غياب الرئيس الأصيل ومدير عام وزارة المالية وبعد استقالة عضو مجلس الإدارة هم خمسة. ناهيك عن أن القانون يمنح الأعضاء التنفيذيين الحق بالاستقالة. جلّ ما في الأمر أن العضو المستقيل لا يحق له طيلة سنة بعد مغادرته أن يعيّن في رئاسة أو عضوية أي مؤسسة تعنى بالأسواق المالية ولا أن يشغل فيها أي وظيفة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة او يتوكل عنها. هذا كل ما في الأمر وما هو مطلوب من أي عضو مستقيل.

أما النقطة الثانية المرتبطة بالتمويل، وتلافياً لأي خطأ قد ينتج عن إعطاء أرقام معيّنة كما يفعل البعض وعبر الإعلام تحديداً، فسوف أكتفي بالقول إنه في البدء قيل إن الهيئة لن تصمد إلى نهاية عام ٢٠٢٣، ثم قيل إن الأموال تكفي للربع الأول من العام ٢٠٢٤. لن أدخل بلعبة الأرقام بل سأقول إن الهيئة تكفي نفسها لفترة أطول ولكن هذا يتطلّب إجراءات تصحيحية وفورية.

٣ – في ما خص الشائعة المرتبطة بتخلّف العضو المسيحي عن الهيئة، دعوني أوضح أنّ الشخص المعني بهذه الشائعة هو أنا، والحقيقة أني أحضر إلى الهيئة يوميا تأدية لواجباتي على أكمل وجه، أمّا التغيب فهو حصرا عن اجتماعات مجلس الإدارة منذ شهر تموز ٢٠٢٣ أي أني تغيبت عن حوالي ٤ اجتماعات، والسبب في ذلك أني كنت قد دقيت ناقوس الخطر منذ قبل سنة، أي تموز ٢٠٢٢، محاولا بكل ما أوتيت من شفافية أن يرى المجلس ما ستؤول إليه الهيئة، طالباً منه إثارة كل هذه المواضيع الحساسة والهامة والمرتبطة بالموظفين والتمويل والإصلاحات الداخلية الضرورية من دون جدوى، لأنّهم آثروا تطبيق سياسة النعامة. إضافة إلى ذلك، كان هذا المجلس قد رفض في شهر حزيران ٢٠٢٣ اتخاذ إجراءات بحق موظفين محميين يخالفون الأنظمة الداخلية، فارتأيت ألا أكون بعد ذلك شاهد زور على أقوال يدلي بها مجلس الإدارة لكنه يتصرف عكسها في أداء مشبوه وغير مهني. والأخطر أنَّ هذه القرارات لم تكن فقط داخلية بل كانت تعني المؤسسات والأسواق المالية، وكانت لسوء الحظ تؤخذ بالأكثرية، من هنا عدم قدرتي على التأثير بهذه القرارات، وسرعان ما كان المجلس يتراجع عنها، تاركا انطباع لدى المؤسسات والقطاع برمته أن لا جدية في قرارات المجلس.

٤ – أما النقطة الرابعة، فقد يصح وصفها بالبدعة أكثر منها بشائعة، لأن مصدر التمويل الوحيد ليس مجلس الوزراء كما يقال. وبإمكاني أن أؤكد لك انطلاقاً من القانون والنظام المالي للهيئة أن لا علاقة لمجلس الوزراء بالتمويل، بل تمنح وزارة المالية الهيئة لدى إنشائها ولمرة واحدة فقط مبلغ ١٠ مليون دولار، وهذا ما حصل من دون أن أدخل الآن بتفاصيل أين وكيف صرف هذا المبلغ الكبير جداً مقارنة بحجم الهيئة، لذلك لم يعد هناك من دور لمجلس الوزراء أو لأي وزارة، والأكيد أنه ما من دور مباشر لمصرف لبنان في عملية تمويل الهيئة، بل إن مصادر التمويل تأتي من الاشتراكات المفروضة على الشركات المدرجة، إضافة إلى الرسوم والبدلات المفروضة على التراخيص والمنتجات، كما نسبة الهيئة من أرباح البورصات والغرامات النقدية التي يفترض أن تكفي هيئة الأسواق المالية بحجمها الطبيعي غير المتضخم بل المتناسب مع حجم السوق اللبنانية.

والسؤال الذي يطرح ما الذي يمكن أن تفعله هيئة الأسواق المالية للقطاع وداخليا كي تستمرّ خلافا لكل المحاولات الأخرى؟

على مستوى الأسواق المالية والقطاع، أدخلت الهيئة الكثير من التغييرات المطلوبة على أنظمتها كي تكون ملائمة أكثر مع السوق اللبنانية، كما أعددت وقدمت للمجلس دراسات متعلقة بالبورصة وما يمكن أن يرتبط بها أو يدرج عليها مع إعادة هيكلة المصارف وتوزيع الخسائر، نظرا للقدرة على إجراء تداول العملات على بورصة بيروت لا سيما سعر الصرف اللبناني مقابل الدولار. إضافة إلى ذلك اقترحت تعديل في شروط الإدراج على بورصة بيروت في محاولة لمساعدة الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم على إيجاد مصادر تمويل عبر الأسواق المالية وليس عبر المصارف، وذلك عن طريق تخفيف قيود وشروط الإدراج، لكنّ المجلس لم يتكبّد حتى عناء النظر بهذا الاقتراح. كما اقترحت مشروع حشد التمويل أو ما يعرف بال crowdfunding بما يتيح للأفراد أو الشركات الصغيرة إيجاد تمويل من أشخاص آخرين لكن الاقتراح ذهب أدراج الرياح سواء بسبب المجلس أو المديريات المعنية باستكمال الدراسة.

أما داخلياً، فقد اقترحنا دراسات عدة مرتبطة بإعادة هيكلة الهيئة والتعويضات للموظفين المستقيلين طوعاً، حين كانت الموارد المخصصة لذلك ما زالت متوفرة، كما اقترحنا أنجع السبل للتوفير وتقليص الهدر، وتدعيم فريق وحدة الرقابة بالموارد البشرية اللازمة لا سيما بعد الاستقالات المتتالية لموظفي هذا الفريق. في أيلول ٢٠٢٣، وفي غياب أي إجراء من قبل المجلس، اقترحنا عشرة بنود إصلاحية على رئيس الهيئة بالإنابة لكنها بقيت حبراً على ورق. ومن ضمن هذه البنود إعادة الدوام إلى خمسة أيام عمل بعد أن فرضت المديرية المعنية دواماً مرناً مخالفا لما وافق عليه الرئيس السابق، واقترحنا خطة استيداع لا تشبه الخطة الغريبة التي وافق عليها المجلس والرئيس، كما طالبنا بنقل موظفين من ضمن مديريات الهيئة إلى فريق وحدة الرقابة حفاظا على الدور الجوهري للهيئة والمتمثل بالرقابة، بالإضافة إلى بنود أخرى سهلة التطبيق وسريعة النتائج، لكن مجددا، تم تأجيل البحث بها.

إذا كان ما يقال صحيحاً عن جلسة لمجلس ادارة هيئة الاسواق المالية قبل نهاية العام وعن أن الهدف هو تخيير الموظفين بين الإستقالة أو الاستيداع، واستخدام الأموال المتبقية لتنفيذ خطة صرف موظفين غير مدروسة وتعليق عمل الهيئة من دون أي اعتبار للسوق المالي ومصالح المستثمرين وما هو مطلوب في أي خطة إصلاحية مقبلة على البلد، فمن البديهي عندها عدم استبعاد ملاحقة المسؤولين عن هكذا قرار بتهمة الإهمال الوظيفي المتعمّد عن سابق إصرار وتصميم، وإساءة الأمانة ممن أقسموا اليمين على تأدية مهامهم. ما من سبب ولا ذريعة لتعليق عمل الهيئة، فالأسواق المالية تعمل بشكل طبيعي والدليل وجود سبع شركات مستكملة ملفاتها تنتظر منذ أشهر أن يرخص لها المجلس الممعن بتأجيل البحث بطلباتها من دون مبرر؛ أما الأموال فهي متوفرة، وكذلك الموظفون. ربّما يكون هناك أسباب أخرى لا نعرفها في ظلّ التعتيم المتعمّد وعدم التواصل من قبل المعنيين miscommunication، فليتفضلوا بعرضها إن وجدت، لأنّ أيَّ قرار غير مسؤول وغير قانوني سوف تتصدى له العائلات التي قطعت أرزاقها بكل الطرق المتاحة.

*عضو تنفيذي في مجلس إدارة هيئة الأسواق المالية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock