أخبار عربية ودولية

“كسوف” أميركيّ في سماء المنطقة!

| جورج علم |
يحاول الإعلام الأميركي أن يصحّح الرقم. يعتبر أن شهداء مجزرة مدرسة “التابعين” بضع عشرات.. وقد يتجاوز المئة إذا شمل الجرحى، والمصابين، والمفقودين.

الرقم، على أهميته، ليس موضع اهتمامه، إنه ـ من منظاره ـ مجرّد حالة وصفيّة لجسامة الحدث. ينصبّ اهتمامه على معرفة الأسباب، والخلفيات، والتداعيات.

يعتبر أنها المجزرة الأولى بعد إختيار يحي السنوار رئيساً للمكتب السياسي لحركة “حماس”، خلفاً لإسماعيل هنيّة. إفتعلها بنيامين نتنياهو ليعبّر عن رفضه للاختيار، وليستفزّ “الحركة” لحملها على اتخاذ قرارات انفعاليّة متسرعة، كإقفال باب المفاوضات، أو الدخول إليها بحزمة جديدة من المطالب التعجيزيّة التي تؤدي إلى جولة جديدة من التصعيد.

التوقيت مهم، ويعرف نتنياهو كيف يستغل الفرص المتاحة ليضرب ضربته. أراد الرد على البيان الأميركي ـ المصري ـ القطري بدم فلسطيني ساخن، وليزرع الطريق المؤدي إلى “التسوية” بعبوات ناسفة.

غيّرت مجزرة مدرسة “التابعين” المشهد، نسبيّاً، لم تعد الإدانة منصبّة على العدو الإسرائيلي، بل ذهبت بالمباشر إلى الولايات المتحدة، هكذا أشارت بيانات الشجب والإستنكار الصادرة عن العديد من الدول العربيّة والإسلاميّة. إعتبر البعض أن المذبحة حصلت بعد موافقة الإدارة الأميركيّة على منح الكيان المحتل 3.2 مليار دولار لشراء أسلحة أميركيّة. البعض الآخر أكد أن نتنياهو قد ارتكبها لنسف احتمالات التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزّة. وهناك من يذهب إلى الأبعد ليقول إن المجزرة مجرّد محطة ضمن مسلسل أميركي ـ إسرائيلي طويل، محكمة الإعداد، والإخراج، وإن “طوفان الأقصى” لن ينتهي عند المتطرفين اليهود المتشددين إلا بواقع جديد لمسجد الأقصى!

هل هذا “الواقع الجديد” ضمن بنك الأهداف الإسرائيلي ـ الأميركي؟

نظرياً، ارتكبت مجازر عدّة بعد السابع من تشرين الأول الماضي، كانت تقابل بـ”إزدواجيّة” أميركيّة مريبة: شجب وإستنكار على المستوى الإعلامي ـ الدعائي، ودعم مستمر على الصعيد المالي ـ العسكري ـ المخابراتي ـ اللوجستي للوصول إلى ما وصلنا إليه، مع التأكيد والإصرار على الاستمرار لتحقيق كامل بنك الأهداف المرسوم من كليهما.
وتشكّل الإنتخابات الأميركيّة فرصة مؤاتيّة، يعرف نتنياهو كيف يستثمرها. زار واشنطن بتوقيت ملائم، حاول إصلاح ذات البين مع الديمقراطيين، وتغزّل بالجمهورييّن، وحرّك “اللوبي اليهودي” في اتجاهات عدة وفق ما يخدم مشروعه التوسعي.

ولم يتلكأ الإعلام الأميركي في تظهير الصورة على أفضل ما يريده، ويصبو إليه. واعتبرت “الواشنطن بوست” أن المتنافسين نحو البيت الأبيض مختلفون حول كيفيّة مقاربة ملفات داخليّة ضاغطة، ولكنهم متفقون على دعم “إسرائيل”، وحتمية مدّها بالمال والسلاح، وكل ما تحتاجه للحفاظ على أمنها، ودورها، ومكانتها في الشرق الأوسط.

ويحاول وزير الدفاع لويد أوستن تجميل القباحة ببعض المساحيق فيقول: “أوفدنا الأساطيل عشيّة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، لمنع نشوب حرب واسعة، وأدرجت المهمة يومها تحت عنوان دعم إسرائيل، والدفاع عنها. وأرسلنا البوارج من جديد في الأمس القريب لمنع توسيع دائرة الحرب بعد إغتيال فؤاد شكر في الضاحية، وإسماعيل هنيّة في طهران”. لكن ماذا عن التهدئة؟ ماذا عن وقف المجازر؟ ماذا عن إطفاء فتيل الحرب؟

وزير الخارجيّة أنتوني بلينكن لا يقصّر، إنه في حراك دائم. في صولات وجولات، وزيارات، واجتماعات، وكولسات، وبيانات طافحة بالتمنيات… لكنه لم يرسل بوارجه، وأساطيله، ومدمراته ليفرض السلام في المنطقة، بقي ملتزماً بحدود “المساعي الحميدة”، ومهمته مقتصرة على “تقريب وجهات النظر”، و”تشجيع” المصريّين والقطريّين على تكثيف المساعي، وتثمير الجهود… وكأن صناعة القرارات الصعبة وتسويقها وتنفيذها قد أصبحت حكراً على القاهرة والدوحة، فيما واشنطن مجرد مراقب شكلي، وساعي بريد، ومرشد إجتماعي!

بعد مجزرة “التابعين”، أصبحت واشنطن في عين العاصفة، إليها تصوّب أصابع الإتهام، إنها الوكيل الحصري لنتنياهو وجماعته، وحدها القادرة على تأديبه، وتهذيبه، وإخضاعه لبيت الطاعة، ووحدها القادرة ـ كما هو واقع الحال ـ على دعمه، ومدّه بسائر عقاقير المقويات لكي يستمر بمخططه الإجرامي التدميري حتى تحقيق كامل بنك الأهداف المرسومة من قبل الطرفين.
وإنطلاقاً من هذا الواقع، يبقى البيان الأميركي ـ المصري ـ القطري في دائرة الإلتباس، محاصراً بالشكوك، حتى تثبت الإدارة الأميركيّة النقيض، وتتدخل بحزم وفاعليّة، وتلزم نتنياهو وحكومته بتنفيذ مندرجات القرار الأممي الرقم 2728 الذي تبنّى خريطة الطريق التي أعلنها الرئيس جو بايدن في 31 أيار الماضي، وضمّنها وقفاً دائماً لإطلاق النار، وإنسحاباً تاماً من غزّة، وتبادلاً للأسرى، وعودة النازحين، وإعادة الإعمار، ورفض أي تغيير ديمغرافي للقطاع!

وبالإنتظار، الكل يده على الزناد. نتنياهو يعد المتطرّفين بتحقيق ما وعد به شعبه بعد السابع من تشرين. يده على الزناد، يرتكب المجازر، يستغل الفرص السانحة التي توفرها الحملات الإنتخابيّة داخل الولايات المتحدة بين الديمقراطيّين والجمهوريّين. “حزب الله” يده على الزناد، يصوّب على نتنياهو ثأراً لفؤاد شكر. طهران يدها على الزناد، تريد ردّاً بليغاً موجعاً، ثأراً لإسماعيل هنيّة، رغم تأييدها لأي إتفاق يقود إلى وقف للنار في غزّة. فيما تتعرّى “الإزدواجيّة” الأميركيّة من صدقيتها، ويزداد حجم كسوفها في المنطقة. لم تعد تقنع العرب والمسلمين “بطراوة البيان، وحلاوة اللسان”، فيما الميدان مشتعل، والمجازر تتوإلى… على الإدارة الديمقراطيّة الراهنة أن تلمّ أطرافها، وتحسم قرارها، وتفرض تنفيذ بنود التسوية التي نادى بها الرئيس بايدن، قبل أن تذهب ريحها مع رياح تشرين، أو تطيح بها صناديق الإقتراع!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock