أخبار لبنانية

لبنان المعافى.. حاجة أمنيّة أوروبيّة

يبقى لبنان أولويّة أوروبيّة. تزداد القناعة رسوخاً لدى الغرب من أن لبنان الآمن، المستقر، في ظلّ مؤسسات دستوريّة ناشطة، ودولة قويّة قادرة، هو ضمانة فعليّة لدعم السياسات المعتمدة من قبل الحكومات الأوروبيّة، لمعالجة الظواهر المقلقة داخل مجتمعاتها، والتي مكّنت اليمين المتطرف من تصدّر محاصيل الإنتخابات، واستطلاعات الرأي.

كثرت في الآونة الأخيرة أعمال الشغب في كلٍّ من بريطانيا، والمانيا، وفرنسا. طعن بالسكاكين، محاولات نشل، وتحرّش، والضرب على وتر التمييز العنصري، والإستغلال الفوضوي للحريات العامة. إسترعت هذه الموجة إهتمام المسؤولين على كافة المستويات، وتحوّلت تداعيات “اللجوء” إلى قضيّة ملحّة تتقدم سائر الأولويات الأخرى، سواء أكانت متصلة بحرب غزّة، أو بالحرب الأوكرانيّة، أو بحريّة الملاحة في البحر الأحمر.

السفراء الأوروبيّون المعتمدون في بيروت مطالبون برصد حركة النزوح، والهجرة غير الشرعيّة نحو السواحل الأوروبيّة، ومطالبون أكثر بتقديم مقترحات عمليّة حول سبل المعالجة. المهمّة ليست بجديدة، لقد نشأت قبل جائحة “كورونا”، وبزوغ فجر “الربيع العربي”، وقبل اندلاع الأزمة في سوريا، وتفشّي موجات النزوح. جديد المهمة، ينبع من الفشل الذي منيت به الحكومات الأوروبيّة في استيعاب أعداد النازحين، ومحاولات دمجهم في مجتمعاتها، والإستفادة من أصحاب الخبرات والكفاءات، وتغيير الكثير من عاداتهم وتقاليدهم الموروثة.

أظهرت الانتخابات الأخيرة تغييراً سيكولوجيّا غير مسبوق داخل تلك المجتمعات. صعود اليمين المتطرّف يعكس المدى الذي بلغه التحوّل الرفضي تجاه الآخر المختلف بشرة، وثقافة، وحضارة. ويبدو كأن المسألة قد خرجت عن نطاق السيطرة في بعض المناطق والمقاطعات، بدليل مستوى الإجراءات الأمنيّة التي تتخذها السلطات، والتي تحاكي في بعض الأحيان إعلان حالة الطوارىء لضبط الفوضى، وأعمال الشغب.

إنطلاقاً من هذا الواقع، وهذه الخلفيّة، يتحرّك معظم سفراء أوروبا المعتمدين لدى لبنان. الصعوبات كثيرة، والعقد لا يستهان بها، أولها “الإزدواجيّة” التي تغلّف الموقف الأوروبي الرسمي تجاه قضيّة النزوح:

ممنوع عودتهم إلى ديارهم إلاّ بعد تنفيذ كامل مندرجات قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 2254، وتحقيق المصالحة الوطنيّة، وإفساح المجال أمام المعارضة للإنخراط في دورة الحياة العامة.

وممنوع مغادرتهم إلى أوروبا، وضرورة دمجهم بالمجتمع اللبناني، رغم معرفتهم بتفاصيل الأزمة السياسيّة، والماليّة، والإقتصاديّة، والإجتماعيّة، والمعيشيّة المفتوحة على المجهول.

وتتمثّل العقدة الثانية بـ”النهم” الأوروبي، ذلك أن بعض الحكومات يريد أن يأخذ من دون أن يعطي. يريد أمناً، وإستقراراً، من دون أن يقدّم حلولاً ناجعة للأزمات المتفاقمة. يعرف تماماً التبعات الأمنيّة، والماليّة، والاقتصاديّة، والسياسيّة، التي يشكّلها مجتمع النزوح، ومع ذلك يعطي من طرف اللسان حلاوة، ويروغ منها كما يروغ الثغلب.

ويبدو الآن أن الظواهر المقلقة بدأت تجتاح المجتمع الأوروبي. كبر العبء، وزاد حجمه، وتداعياته. لم يعد “العدو” خارج صحن الدار، بل أصبح في الداخل، يأكل، ويشرب، وينشط، وينافس في بعض المهن الوضيعة. ومع التغيير المقلق الحاصل، تغيّرت أساليب المعالجات. تطمح أوروبا اليوم إلى إعادة تفعيل نشاط اللجنة الخماسيّة العربيّة ـ الدوليّة لمواكبة التطورات، وتكثيف الجهود الآيلة إلى إيجاد مخارج للأزمة المتفاقمة. تريد انتخاب رئيس للجمهوريّة في أقرب فرصة ممكنة لوضع حدّ للفراغ، وإعادة بناء المؤسسات. أوروبا اليوم مع قيام الدولة القويّة القادرة والعادلة، لأن قيامها يشكل دعامة قويّة للأمن الأوروبي، وحاجزاً في وجه الهجرة غير الشرعيّة، ومؤسسات أمنية قادرة على كبح موجات النزوح، وضبط تسللات مراكب الموت نحو الشواطىء الأوروبيّة.

ووفق الإقتراحات المتداولة، هناك خمسة يبنى عليها:

الأول ـ قيام جهد أوروبي مشترك بديلاً عن القوى المبعثرة حيث لكل دولة سلوكها في مقاربة الأزمة، والتي أدت إلى نتائج محدودة لا يبنى عليها. وحلّ هذا العنوان في صدارة المواضيع التي بحثها رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، مع كلّ من المستشار الالماني أولاف شولتس، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال جولته الأخيرة.

الثاني ـ تفعيل دور الخماسيّة العربيّة ـ الدوليّة من منطلق الجهود التي بذلتها، والخلاصات التي انتهت اليها.

ويرى الزعماء الأوروبيّون أن هذه اللجنة قد حظيت باحترام القيادات اللبنانية، وتعاونت وتفاعلت معها، وتوصلّت إلى قناعات، وبات من الضروري التعاون معها لإنهاء الشغور الرئاسي، ووضع حدّ للفراغ.

الثالث ـ التواصل مع الرئيس الإيراني الإصلاحي مسعود بزشكيان، المنفتح على الحوار مع الغرب، لمعالجة الكثير من المسائل التي تمليها لعبة المصالح.

وفي هذا المجال، يقول محدّثي الأوروبي إن الطريق نحو بيروت سالكة وتعتمد خطّاً مستقيماً، لذلك لا يمكن لفرنسا، أو بريطانيا، أو المانيا الوصول إلى بيروت بعد المرور الإلزامي بطهران. هذه الإشكاليّة لا بدّ من أن تتصدّر أي بحث جدّي يرمي إلى قيام الدولة القوية القادرة والعادلة والمنفتحة في لبنان.

الرابع ـ إعادة الحياة إلى ملف الطاقة في المياه الإقليميّة اللبنانيّة، تنقيباً، وإستخراجاً، وتنشيطا للشريان الإقتصادي اللبناني الذي يعاني من ضمور وخواء. إن الأوروبيّين لم يلعبوا الدور المطلوب منهم بمسؤوليّة، وحرفيّة، وإتقان، في ملف ترسيم الحدود البحريّة مع فلسطين المحتلة، لكن ملف الطاقة في لبنان هو من العوامل المساعدة على توفير المناخ المؤاتي لمعالجة الأزمة اللبنانيّة المتفاقمة.

الخامس ـ إن دور بريطانيا وفرنسا لن يقتصر على المساهمة بتمديد مهام “اليونفيل” سنة كاملة في الجنوب. هذا التمديد، من المنظار البريطاني ـ الفرنسي، يبنى عليه لضبط ظواهر التشنج والإنفعال، وتوسيع دوائر الهدوء والإستقرار، إفساحاً في المجال أمام دبلوماسيّة أوروبيّة مرنة قادرة على ترك لمساتها على مواصفات “اليوم التالي” في الجنوب، والداخل.

إن لبنان المستقر، المعافى، في ظلّ دولة ناشطة، ومؤسسات فاعلة، هو ضمانة لأمن أوروبا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock